نجيب محغوظ (السيناريست) ما قاله في مذاكرته عن السينما


علاقتي بالسينما بدأت في سن مبكرة جدا، كنت لا أزال طفلاً في من عمري عندما دخلت سينما «الكلوب المصري» في «خان جعفر» المقابل لمسجد سيدنا الحسين، وكانت سينما «الكلوب» من أقدم دور السينما في مصر، وإلى جوارها لوكاندة وكافيتريا يحملان الاسم نفسه، ومنذ اللحظة الأولى عشقت السينما وواظبت على الذهاب إليها مع الشغالة، حيث كانت أمي ترسلها معى، وتظل ملازمة لى حتى انتهاء العرض، ثم تصحبني إلى المنزل، كانت كلمة «النهاية» على آخر الشريط، من أشق اللحظات على نفسي، فقد كنت أتمنى أن أمضى اليوم كله داخل دار العرض، وتمنيت لو أنني أسكن في دار عرض سينمائي فلا أخرج منها أبدا، كانت السينما وقتذاك تعرض الأفلام الصامتة، ولا نرى في دار العرض إلا صورا متحركة بدون أصوات، ومع ذلك كانت متعة مشاهدة فيلم صامت لا تعادلها ـ عندي ـ أي متعة أخرى.

أما علاقتي المباشرة بفن السينما، فقد بدأت في أواخر الأربعينيات، وعلى وجه التقريب عام ١٩٤٧، ففي ذلك العام أخبرني صديقي «فؤاد نويرة»، وكان من المهتمين بالفن ويهوى التمثيل وله علاقات بالوسط الفني، بأن المخرج صلاح أبوسيف يرغب في مقابلتي، لکی أعمل معه في كتابة سيناريوهات الأفلام، فرفضت متعللاً بعدم معرفتي بهذا المجال، حيث إننى أفهم في الكتابة الأدبية أما السينما فهي أمر صعب بالنسبة لي.. إلا أن «فؤاد نويرة» أقنعنى بأن المخرج صلاح أبوسيف سيعلمني ما يفيدني في مجال كتابة السيناريو، وهمس «فؤاد» في أذني بأنني سأتقاضى مبلغا محترما نظير كتابة السيناريو وأنا الذي أصرف من جيبي على الأدب ولم أكسب منه مليما واحدا حتى ذلك الحين.

وذهبت إلى صلاح أبوسيف، وعرفت منه أنه يعد لفيلم جديد عن «عنتر وعبلة»، ويريد أن يكلفني بكتابة سيناريو الفيلم. وعلى مدار عدة جلسات متواصلة، علمني صلاح أبوسيف التفاصيل والدقائق في كتابة السيناريو، ثم بدأت في الشروع في كتابة السيناريو بالفعل، واستطعت إنجاز ما طلبه أبوسيف، وكانت النتيجة مبهرة من وجهة نظره، ثم أعطاني أبوسيف مجموعة كتب عن فن السيناريو فقرأتها بنهم شديد، كما قمت بشراء مجموعة كتب أخرى ودرستها بعناية، حتى أتقنت هذا الفن.

الغريب أن صلاح أبوسيف عندما طلبني للعمل معه في فيلم «عنتر وعبلة» لم يكن قرأ من أعمالي المنشورة سوى رواية «عبث الأقدار»، واستشف من بين سطورها أننى أصلح لكتابة السيناريو، وحصلت على مبلغ مائة جنيه مصرى نظير عملي في الفيلم الذي كان حدثا فريدا في حياتي وفتحا جديدا أشبه بظهور «النفط» في دول الخليج العربية!!.

ورغم الكسب المادي كنت أشعر ببعض الضيق في عملي الجديد، فقد تعودت في الأدب أن أكون أنا كل شيء في العمل، أمضى بأحداثي وشخصياتي طبقا لرؤيتي الخاصة، ودون تدخل من أحد، أما السينما فهي عمل جماعي، لا تستطيع أن تنفرد فيه بالقرار، حيث تحكمه أهداف مختلفة منها ما هو فنى وما هو تجارى، وله أطراف عديدة من منتج وموزع ومخرج وممثلين، وينبغي أن ترضى كل الأطراف رغم اختلاف أهداف كل منها.

والحقيقة أن «حلاوة» المكسب المادي جعلتني أتغاضي عن تلك المتاعب وأبلع ضیقي، خاصة أن كتابة سيناريوهات الأفلام لم تعطلني عن عملي الأساسي وهو الأدب. فصلاح أبوسيف الذي أعمل معه لم يكن يخرج سوى فيلم واحد في السنة، ويبدأ عمله في الفيلم خلال الصيف، وكنت أنقطع عن الكتابة في ذلك الفصل من العام بسبب مرض الحساسية الذي يصيب عيني في شهور الصيف، فكنت أعمل مع أبوسيف في هذه الشهور، واستغرقتني كتابة السيناريو طيلة الفترة ما بين عامي ١٩٥٢ و ١٩٥٧، وسجلت اسمى خلالها كسيناريست محترف في نقابة المهن التمثيلية، وبعد «عنتر وعبلة» توالت أعمال سينمائية أخرى، أذكر منها: «ريا وسكينة» و «الوحش» و «إحنا التلامذة».

صفحات من مذكرات نجيب محفوظ - رجاء النقاش. 


 


تعليقات

الأكثر جلوسًا